تهميشات على معلَّقة امرئ القيس
شعر: عبد الرحمن صالح العشماوي
«قِفَا نَبْكِ» مـن ذكـرى صـريـعٍ مُـجَـنْـدَلِ *** بـسِـقْطِ الأسى بين الهوى والـتَّـذَلُّـلِ
فَـدِجْــلَــةَ فـالـمــاءِ الّـذي صــــار لـونُــه *** كـلـونِ حـيـاضِ الذَّبْح يـومَ التَّـحَـلُّـلِ
فـبـغــدادَ فـالأقـصـى الجـريحِ فـصـخــرةٍ *** تـئـنُّ مـن الـبـاغـي أنـيـنَ الـمـكـبَّـلِ
فـكـشـمـيـرَ فـالافـغــانِ صــارتْ بـلادُهـم *** من البؤسِ تغلي باللَّظى غَلْيَ مِرْجَلِ
فـنـاحـيـةِ الـشـيـشــان ِحـيـث تَـزَلْــزَلَـتْ *** بـيـوتُ بني الإســلام شَـرَّ الـتَّـزَلْـزُلِ
قـفـا نَـبْـكِ مـن أحــــــوال أُمّــتـنـا الّـتـي *** نراها بجمر البَغْي تُصْلَى وتصـطـلي
تـرى قِـطَـعَ الأشــلاء في «عَـرَصاتِها» *** تـعــبِّـر فـيـهـا عــن يـتـيـمٍ ومُـثْـكِـلِ
فـكـم واردٍ فـيـهـا على حـــوض مــوتـه *** وكـم ذائـقٍ فـيـهـا مــــرارةَ حَـنْـظَـلِ
«وقـوفـاً بها صحـبي» يقولون: لا تَقِفْ *** حـزيـناً «ولا تَهْلَكْ أسـىً وتـجـمَّـلِ»
ألم يُـبـصــروا مـثـلـي تَـخــــاذُلَ أمــتي *** «فهل عند رسمٍ دارسٍ من مـعـوَّلِ»
ألا يا اِمْـرأَ الـقـيـسِ الّذي فـاض دمـعُـه *** ألست تراني بَـلَّ دمـعـيَ مِـحْـمَـلي؟!
وصَـفْـــتَ لـنـا أمَّ الـحُـــوَيْـرِثِ عــابـثــاً *** «وجــارتَـهـا أمَ الـرَّبـابِ بـمَـأْسَـلِ»
وصـفْـتَ لـنـا مِـسْـكـاً تَـضــوَّع مـنـهـمـا *** كما هَبَّ نِسْنَاسُ الصَّـبا بـالـقَـرَنْـفَـلِ
نـقـلْــتَ لـنـا أخــــبـارَ خِـــدْرِ عُـــنـيــزةٍ *** وصَـرْخَتَها بالويلِ «إنَّـكَ مُـرْجِـلي»
وفــاطــــمَ إذْ نـاديـتَـهــا مـــتـوسِّــــــــلاً *** «أَفـاطـمُ مهلاً بعـضَ هذا الـتَّـدَلُّـلِ»
نَحَـرْتَ على شـرع الهـوى ناقةَ الهـوى *** لَتَغْـذوَ مَنْ تهـوى «بدارَةِ جُـلْـجُـلِ»
«تـركـتَ الـعـذارى يـرتـمـيـنَ بـلحـمـهـا *** وشـحْـمٍ كَهُـدَّابِ الدِّمَـقْسِ المُـفَـتّـلِ»
لـقـد كنتَ ضِـلَّـيـلاً تـمـيـلُ مع الـهــــوى *** كما مالَ في عصـري دُعاةُ التـحـلُّـلِ
فـكـنـتَ على مـا كُـنْـتَ قُـــدْوَةَ مـــاجــنٍ *** خـلـيـعٍ صـريـعٍ لـلـتَّمــادي مـضـلِّـلِ
ألا يـا اِمْــرَأَ الـقـيـس الّـذي ثـار قـلـبُــه *** لـقـتـل الأبِ المنكـوب أَسْــوَأَ مَـقْـتَـلِ
تـحــوَّلْـتَ مـن خــمـرٍ ولـهــوٍ وضَـيْـعَــةٍ *** إلى حَــمَــلات الـثَّـأْر أقــوى تَـحـوُّلِ
تـجـــاوزْتَ حدَّ الـعـقـلِ في الـثَّـأْر مـثلما *** تجـاوزْتَ في الأَهــواءِ حَـدَّ التَّـعَـقُّـلِ
ألا لـيـتَ شــعــــــري لـو رأيـتَ تـخــاذُلاً *** لأمّــتـنـتا فـي حـــالِـهـا الـمُـتَـمَـلْـمِـلِ
فـيـا ربَّـمــا جــــرَّدْتَ ســيـفـكَ مُــقـــبـلاً *** «بـمــنـجــردٍ قـيـدِ الأَوابـدِ هـيـكـلِ»
تـبـدَّلْـــتَ فـي حـــالَــيْـكَ والأمَّــــةُ الّـتـي *** تـعــــــوَّذَ مــنـهـا الـــذُّلُّ لــم تـتـبـدَّلِ
ألا يا اِمـرأ الـقـيـسِ الّـذي مــات نـائـيــاً *** تـركـتُـكَ مـحـمـولاً على شرِّ مَـحْـمَـلِ
لـقــيـتَ جــــزاءَ الـمُـــلْـتـجـي لـعـــــدوَّه *** فـصـرت عن المـجـد التَّليدِ بـمـعــزِلِ
أيـا حـــامــلاً فـي الـنَّـار رايــة شــعـــره *** ويـا مـن رآه الـلَّـهــوُ أكــبـرَ مُـوغِـلِ
هـجــرتُـك مُـذْ لاحـــتْ لـعـيـنيْ مـلـيـحــةٌ *** تـقــرِّب كـفَّيْ مـن جَــنَـاهـا الـمـعـلَّـلِ
لـهـا غُــرَّةٌ يَـسْـتَـمْـنِـحُ الـفـجــرُ نـورَهـا *** وفـرعٌ «كَقِـنْـوِ النَّخـلةِ المُـتَـعَـثْـكِلِ»
وفي مــقـلـتـيـهـا أَفْـرَغَ الحـسنُ نـفـسَـه *** كـنـاظـرتَـيْ ظـبـيٍ «بوَجْـرَةَ مُطْـفِلِ»
تـجـاوزتُ أســواراً من الـدَّهــر نحـوهـا *** فلله واحــــاتٌ تــجـلَّــتْ لـمُــجْــتَـلِـي
ولله أمــجـــــادٌ تــراءَتْ لـــنـــاظـــــــــرٍ *** ولله حـــــــــــقٌ لاح لــلــمـــتــأمِّــــلِ
سـقــانـي مـن الـمــاءِ الـمـبـارِكِ شَــرْبَةً *** وجــلَّـلَ أحــــلامـي بـثـوبٍ مُـــرَحَّــلِ
شـريـعـــتـنـا الـغــــرَّاء أشـــرق نـورُهـا *** بـآي مـن الـوحـي الـكــريـم الـمُـنَـزَّلِ
وصــلـتُ إلـيـهـا والـصَّــــبـاحُ يـمُـــدُّ لي *** يَدَ الـنُّـور عَنْها ظٌـلْمَـةُ الليل تَنجـلـي
فـيـا ليـتـنـي أَلْـقــيـتُ رَحْـــلـيَ عــنـدهـا *** ولـم أتـكــلَّــفْ رحـــلــةَ الـمــتـرحِّـلِ
فـلـمّـا دَنـا ركــبـي إلى عــصــرنا الّـذي *** بدا مثلَ «خَبْتٍ ذي حِقَافٍ عَـقَنْقَـلِ»
تـجــوَّلْـتُ حتّى قــــال دربـي : إلى مـتى *** وحتّى رأيـت الـبـيـدَ مـلَّـتْ تـجــوُّلي
وأَلْـقَــيْـتُ رَحْــلـي عـنـد واقــــع أُمــتـي *** أقـلِّـب طــرفَ الـنـاظِـــــر الـمُــتَـأَوِّلِ
فـلاحـتْ لعينيْ صــورةُ الـقُــدسِ وجهُها *** كسِيْفٌ وفي أعماقها الحـزنُ يغـتـلي
تـســوق جـواداً يشتكي قَـسْـــوَةَ الحَـفَى *** حــوافـرُه صارت كأطَــرافِ مُـنْـخُــلِ
بـطــيـئـاً ثـقـيـلاً واهــنـاً خـــائـفـاً مـعـــاً *** كـجــثَّـةِ شـــيـخٍ عـنـد حــي مُــوَلْـوِلِ
على الـذُّلِّ «جــيَّـاشـاً» كـأنَّ نَـشــيـجــه *** تـوجُّـع شَـعْـبٍ في فلسـطـينَ مُـهْـمَـلِ
حَــرُوناً إذا مـا الـسـابحـاتُ على الـوَنَى *** ركـضْـنَ تَراخَى مٌوغـلاً في التَّمَـلْـمُلِ
فلـيس.. «كـخُــذروفِ الـولـيـد» وإنَّـمـا *** كجـسمٍ إلى الإعـياءِ شُـدَّ «بِـيَـذْبُـلِ»
له «أَيْـطَـلا» بُـؤْسٍ «وسـاقَـا» تَـخــاذُلٍ *** وإبطــاءُ مكـســورِ الجـناحين أعــزَلِ
نحـيلاً «إذا استدْبَرْتَه» بانَ مـا اخـتـفى *** وأعــطــاك سِـرَّ الـواهـنِ المـتـهــزِّلِ
جـــواداً هـــزيـلاً يـعـتـرف الــدّربُ أنَّـه *** يُـشَـدُّ إلى الـبـاغــي بـحـبـلٍ مُـوَصَّـلٍ
وأُمَّـــــةِ بـؤسٍ لا يُــصَـــــانُ خــبـاؤهــا *** تـمــتَّـع مــنـهـا كلُّ حـــافٍ ومُــنْـعِــلِ
تـجــاوزَ أحــراسـاً إليـها «ومـعـشــراً» *** دُعــــاةُ الـخَـنَـى من مـعـتـدٍ ومُـطَـبِّـلِ
أتَـوَهْـاَ «وقـد نـضَّــتْ لـنـومٍ ثـيـابـهـا» *** لدى السِّـتْـرِ إلاَّ لِـبْـسَـةَ الـمـتـفــضِّــلِ
فكم صــرخـةٍ مـاتـت على سـمع غـافـلٍ *** وما حـرَّكـتْ إِحساسَ «قلبٍ مُـقَـتَّـلِ»
ومـا سـمـعَـتْ بعد الـنّـداءِ سـوى الّـذي *** يُـقَـهْـقِهُ من هـذا الـنّـداءِ المُـجَـلْـجِـلِ
ومــا أبـصـــــرتْ إلاَّ بـريـقَ دعـــــايــةٍ *** يـضـلَّـلُـهـا عـن حـقَّـهـا الـمــتـأصِّـــلِ
ومــؤتـمـــــراتٍ أقـســمَ الـعــــدلُ أَنَّـهـا *** تـســـوَّغ لـلأقــوى طــريـقَ الـتَّـكَـتُّـلِ
لـهـا جَـمَـلٌ يـمـشي على ظَــهْـر خُــفِّـه *** يـسـيـر بـهـا سَـيْـرَ الجريحِ الـمُـثَـقَّـلِ
تقول وقد مـال «الغَـبـيـطُ»، بـبـؤسـهـا *** عَـقَـرْتَ بعيري يا هوى القوم فـانـزلِ
«ولـيـلٍ كموج البحـر أرخى سـدولَـه» *** عـلـيهـا «بأنواع الهـمـوم لـيـبـتـلي»
تـسـاقـط فـيه الـنَّـجْــمُ مـن كـل جـانـبٍ *** تَـسَـاقُــطَ أطـفـالِ الـعـراقِ الـمُـزلْــزَلِ
وعـفَّــرَتِ الـغـــــاراتُ طَـلْـعَــــةَ بَـدْره *** فشُـدَّتْ «بأمـراسٍ إلى صُـمِّ جَــنْـدَلِ»
وصـبَّـتْ على مـاء الـفـراتِ سمـومَـها *** فمن يرتشـفْ من شـاطئ النَّهْر يُقْـتَـلِ
ألا يا اِمْـرأَ القـيسِ الذي امـتدَّ شـعـره *** إليَّ كما امـتـدَّتْ غـصـونُ السَّـفـرْجَـلِ
لـشـعـركَ في روض القـصـائـد رونـقٌ *** وإنْ كنتَ عن إشـراق ديني بـمَـعْــزِلِ
لـقـد نـزل الـقــــرآن بـعـــدك رافــعـــاً *** مـــكـانـتَـنـا فـي كــلَّ نـادٍ ومَـــحْــفِـــلِ
ولـكـنَّـنـا لـمــا تــطـــــاول عــهــــدنــا *** ســحـــبـنـا رداءَ الــذُلِّ دون تـمَــهُّــلِ
وَكَـلْـنَـا إلى الأغـمــادِ شَـأْنَ سـيـوفِـنـا *** فـمـا سُــلَّ سـيـفٌ في مـقـــامٍ مُـبَـجَّــلِ
ســمـعـتُـكَ نـاديـتَ الـظــــلامَ مــــردِّداً *** «ألا أيَّـهـا الليلُ الطـويلُ أَلاَ انـجـلي»
ونـحــن نـنـادي لـيـلَـنـا كـلَّـمـا سَـجَــا *** ألا مــرحــبـاً بـالـغَــيْـهـبِ الـمُـتَـهــوِّلِ
يَـشُــنُّ الأعــــادي غــارةً اِثَـرَ غــارةٍ *** وأُمَّـتُـنــا تُـسـقى بـكــأسٍ «مُـفَـلْـفَـلِ»
تـهـــاوَتْ فـضـائـيَّـاتُـهـا في مجــونها *** تَـجُـــرُّ إلى الإســـفـــافِ كـلَّ مــغَــفَّــلِ
تَـشُـــــنُّ عـلـى أبــنــائـنــا وبـنـاتـنــا *** مـعـــاركَ أخــــلاقِ الــرَّدَى والـتـبــذُّلِ
أَظـنُّـكَ لو أبـصـــرتَـهـا قُمْتَ مُغْـمِضـاً *** جـفــونَـكَ مـن اِحـسـابـكَ الـمُـتَـخَـجِّــلِ
ولـسـتَ مــثـالاً يُـحْــتَـذَى إِنَّـمـا دَعَـــا *** لـذكـــركَ سُــوءُ الـحــــالِ لـلمُــتَـمَـثِّــلِ
ألا يا اِمـرأ القيس الّـذي في قُـروحِـهُ *** تجـلَّى مـــثـالُ الـغَـــدْر في كــلِّ مـنـزِلِ
كسـاكَ رداءَ الموتِ «قَيْصَرُ» خادعاً *** فهل يُدرك الغافُـونَ معنى التَّسلْـسُـلِ؟!
أقـولُ وفي قـلـبِ القـصـيـدةِ حـســرةً *** «قِفَا نبكِ» من ذكرى صريعٍ مُـجَـنْـدَلِ
«الجمل التي بين القوسين الصغيرين من معلَّقة امرئ القيس»