لحمد لله الجواد الكريم أنعم علي الإنسان بالخير الجسيم فقال وصدق ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ النحل (18) أحمد الله وأشكره وأتوب إليه وأستغفره . وأستعين به وأستنصره . وأسأله النجاة من النار . وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شرفه وفضله وزينه وجمله واصطفاه واجتباه ووفقه وهداه فكان خيرة خلق الله . اللهم صل وسلم وبارك علي رسول الله محمد خير عبادك وعلي آله وصحبه وكل مسلم آمن بآيات ربه ففاز بقربه وتمتع بحبه وسار علي دربه إلى يوم الدين أما بعد . فأوصيكم وإياي عباد الله بتقوى الله وأحذركم ونفسي من عصيان الله ثم أستفتح بالذي هو خير . يقول الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين : ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) ﴾ البلد .
عباد الله أيها المسلمون :
نعم الله علي الإنسان كثيرة ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ إبراهيم (34) ومن هذه النعم نعمة اللسان .
فاللسان : عضو الكلام في الإنسان خلقه الله لك لتعبر به عن ما في نفسك وتذكر به الله وتقرأ به القرآن . وشكر النعمة أن تستخدمها فيما خلقت من أجله وصدق من قال :
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النقم
ومثل اللسان في ذلك القلم . يمكن للإنسان أن يعبر به عن ما يريد النطق به . فلا تكتب به إلا ما يرضي الله وصدق من قال :
ما من كاتب إلا سيفني ويفني الدهر وما كتبت يــداه
فلا تكتب بيدك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه
واللسان وإن بدى لنا صغيرا في حجمه إلا أنه خطير في أهميته وقدره . ولم لا ؟ فهو معيار الإسلام . روي البخاري رحمه الله عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " وهو معيار الرجولة فقد جاء في الخبر " المرء بأصغريه قلبه ولسانه ". وهو معيار لصلاح القلب . قال صلى الله عليه وسلم " لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه " . وهو مرآة تكشف عن الإنسان قال علي رضي الله عنه " قلب المنافق وراء لسانه ولسان المؤمن وراء قلبه " وهو سبب الهلاك . فقد سئل النبي صلى اله عليه وسلم عن أخطر ما يدخل الناس النار ؟ فقال : الأجوفان ( الفم والفرج ) . وهو سبب النجاة . وصدق من قال :
إذا أردت أن تحيا سليما من الأذى وحظك موفور وعرضك صــــين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللـــــــناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك مساوئا فصنها وقل يا عين للناس أعــــــين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدي وفارق ولكن بالتي هي أحســــن
وصدق الشافعي رحمه الله :
احذر لسانك أيها الإنسان ليلدغنك إنه ثعــــبان
وكم من رجل مات شهيد لسانه كانت تهابه الشجعان
من أجل هذه الأسباب مجتمعة فإن الأعضاء تشفق على اللسان وترجوه ألا يخطئ فما من يوم ينشق فجره إلا والأعضاء تذكر اللسان وتقول له اتق الله فينا فإنما نحن بك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا .
فلا تستهن عبد الله بالكلمة . فكلمة بسيطة قد ترفعك درجات وقد توردك المهالك . قال صلى الله عليه وسلم " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا فيهوي بسببها في النار سبعين خريفا " وقال علي رضي الله عنه " من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كثر غلطه ومن كثر غلطه قل حياؤه ومن قل حياؤه مات قلبه ".
لذلك فمن رحمة الله بالعبد أن جعل له لسانا واحدا وأذنين حتى يتكلم قليلا ويسمع كثيرا ومن فضله أن جعل علي لسانه قفلين قفل من لحم وآخر من عظم حتى يفكر الإنسان في الكلمة قبل أن يقولها . وقد قيل طالما لم تنطق بالكلمة فأنت تملكها ولكن إن نطقت بها ملكتك هي .
ومادام اللسان بهذه الخطورة والكلمة بهذا التأثير فلا خلاص للإنسان إلا بأحد أمرين إما بالصمت وإما بالكلام الحسن . فأما الصمت فهو يكسبك صفو المحبة ويجنبك سوء المغبة ويلبسك ثوب الوقار ويجنبك مؤنة الإعتزار فاعقل لسانك أيها الإنسان إلا عن حق توضحه أو باطل تدحضه أو حكمة تنشرها أو نعمة تذكرها . وقد رغب فيه النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله رجل فيما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه ما النجاة يا رسول الله ؟ فقال : أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك علي خطيئتك " ولم لا ؟ والصمت ضمان الجنة وشرط للإيمان وسبب لستر العورة .
ضمان للجنة. قال صلى الله عليه وسلم" من يضمن لي مابين لحييه وما بين فخذيه أضمن له الجنة " وشرط للإيمان قال صلى الله عليه وسلم " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خير أو ليصمت " وسبب ستر العورة . قال صلى الله عليه وسلم " من كف لسانه ستر الله عورته "فيا سعد عبد أمسك الفضل من كلامه قال صلى الله عليه وسلم " طوبي لعبد أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من كلامه " .
وأما الكلام الحسن فقد ذكر العلماء شروط للكلام الحسن لا يسلم الإنسان من الزلل في الكلام إلا بها منها: أن يكون للكلام داعي فيكون ( لجلب منفعة أو دفع مضرة ) قال تعالى ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) ﴾ النساء. وأن يكون علي قدر الحاجة فلا يزيد لقوله تعالى ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) ﴾ ق. وأن يكون الكلام في موضعه وإلا صار لغوا ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) ﴾ المؤمنون. وأن يتخير اللفظ الحسن وإلا كان خوضا فقد ذكر الله من أسباب دخول سقر ﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) ﴾ المدثر. وصدق من قال :
فإن لم تجد قولا سديدا تقوله فصمتك عن غير السداد سداد
واسمع لربك ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) ﴾ وقال صلى الله عليه وسلم " رحم الله امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم ".
حذر القرآن من الكلام الخارج حتى لو كان قليلا فقد حذر من كلمة أف وإياك أن تظن أن الإفلات من الله أمر يسير فقد هيأ الله لك ستة أنواع من الشهود : الزمان والمكان والكرام الكاتبين والكتاب الذي تسجل فيه أعمالك ونفسك والجوارح والأركان .
أما الزمان : فما من يوم ينشق فجره إلا ويناد مناد " يا بن آدم أنا خلق جديد أنا بعث جديد علي عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة "
وأما المكان : فاسمع لربك ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)﴾ الزلزلة.
وأما الكرام الكاتبين : فقد قال الله ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) ﴾ الانفطار
وأما الكتاب فاسمع لربك ﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) ﴾ الجاثية.
وأما نفسك : قال الله ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) ﴾ الإسراء
وأما الجوارح والأركان : فيختم الله علي اللسان ويأمر الجوارح والأركان فتنطق اليد بما كسبت والرجل بما عملت ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) ﴾ يس. فيقول اللسان سحقا لكم وبعدا فعنكن كنت أجادل فيقولون له أنطقنا الله الذي انطق كل شيء ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)﴾ فصلت.
و الله ولي التوفيق.