السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السؤال: ما معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه ) ؟
الجواب:
الحمد لله
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ
أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا ،
وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَىْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ ) رواه البخاري (39) ومسلم (2816)
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" معنى الحديث : النهي عن التشديد في الدين ، بأن
يحمِّل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمله إلا بكلفة شديدة ، وهذا هو
المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) يعني : أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة ، فمن شاد الدين غلبه وقطعه .
وفي " مسند الإمام أحمد " – (5/32) وحسنه محققو المسند - عن محجن بن الأدرع قال :
( أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كنا
بباب المسجد إذا رجل يصلي قال : " أتقوله صادقا " ؟ قلت : يا نبي الله هذا
فلان ، وهذا من أحسن أهل المدينة أو من أكثر أهل المدينة صلاة ، قال : " لا تسمعه فتهلكه - مرتين أو ثلاث - إنكم أمة أريد بكم اليسر )
وفي رواية له : ( إن خير دينكم أيسره ، إن خير دينكم أيسره ) – " مسند أحمد " (3/479) وحسنه المحققون -.
وقد جاء في رواية عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا :
( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، ولا تُبَغِّض
إلى نفسك عبادة الله ؛ فإن المُنْبَتَّ لا سفرا قطع ، ولا ظهرا أبقى ) – "
السنن الكبرى " البيهقي (3/19) وضعفه الألباني في " السلسلة الضعيفة "
(1/64) -
والمُنْبَتُّ : هو المنقطع في سفره قبل وصوله ، فلا
سفرا قطع ، ولا ظهره الذي يسير عليه أبقى حتى يمكنه السير عليه بعد ذلك ؛
بل هو كالمنقطع في المفاوز ، فهو إلى الهلاك أقرب ، ولو أنه رفق براحلته
واقتصد في سيره عليها لقطعت به سفره وبلغ إلى المنزل " انتهى باختصار. "
فتح الباري " لابن رجب (1/136-139)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب .
قال ابن المنير : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع .
وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة ، فإنه من
الأمور المحمودة ، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال ، أو المبالغة في
التطوع المفضي إلى ترك الأفضل ، أو إخراج الفرض عن وقته ، كمن بات يصلي
الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة
الصبح في الجماعة ، أو إلى أن خرج الوقت المختار ، أو إلى أن طلعت الشمس
فخرج وقت الفريضة " انتهى.
" فتح الباري " لابن حجر (1/94)
ويقول العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله :
" ما أعظم هذا الحديث وأجمعه للخير والوصايا النافعة
والأصول الجامعة ، فقد أسّس صلّى الله عليه وسلم في أوله هذا الأصل الكبير ،
فقال: ( إن الدين يسر ) أي : ميسر مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله ، وفي
أفعاله وتُروكه :
فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله وملائكته
وكتبه ورسله واليوم الآخر والقَدَر خيره وشره : هي العقائد الصحيحة التي
تطمئن لها القلوب ، وتوصِّل مقتديها إلى أجلِّ غاية وأفضل مطلوب .
وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق وأصلح الأعمال ، بها
صلاح الدين والدنيا والآخرة ، وبفواتها يفوت الصلاح كله ، وهي كلها ميسرة
مسهلة ، كل مكلف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه ولا تكلفه .
عقائده صحيحة بسيطة ، تقبلها العقول السليمة ، والفطر المستقيمة .
وفرائضه أسهل شيء :
أما الصلوات الخمس : فإنها تتكرر كل يوم وليلة خمس
مرات في أوقات مناسبة لها ، وتمم اللطيف الخبير سهولتها بإيجاب الجماعة
والاجتماع لها ؛ فإن الاجتماع في العبادات من المنشطات والمسهلات لها ،
ورتب عليها من خير الدين وصلاح الإيمان وثواب الله العاجل والآجل ما يوجب
للمؤمن أن يستحليها ، ويحمد الله على فرضه لها على العباد ؛ إذ لا غنى لهم
عنها .
وأما الزكاة : فإنها لا تجب على فقير ليس عنده نصاب
زكوي ، وإنما تجب على الأغنياء تتميماً لدينهم وإسلامهم ، وتنمية لأموالهم
وأخلاقهم ، ودفعاً للآفات عنهم وعن أموالهم ، وتطهيراً لهم من السيئات ،
ومواساة لمحاويجهم ، وقياماً لمصالحهم الكلية ، وهي مع ذلك جزءٌ يسير جداً
بالنسبة إلى ما أعطاهم الله من المال والرزق .
وأما الصيام : فإن المفروض شهر واحد من كل عام ، يجتمع
فيه المسلمون كلهم ، فيتركون فيه شهواتهم الأصلية - من طعام وشراب ونكاح -
في النهار , ويعوضهم الله على ذلك من فضله وإحسانه تتميم دينهم وإيمانهم ،
وزيادة كمالهم ، وأجره العظيم ، وبره العميم ، وغير ذلك مما رتبه على
الصيام من الخير الكثير ، ويكون سبباً لحصول التقوى التي ترجع إلى فعل
الخيرات كلها ، وترك المنكرات .
وأما الحج : فإن الله لم يفرضه إلا على المستطيع ، وفي
العمر مرة واحدة ، وفيه من المنافع الكثيرة الدينية والدنيوية ما لا يمكن
تعداده ، قال تعالى: ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ) الحجّ/28, أي:
دينية ودنيوية.
ثم بعد ذلك بقية شرائع الإسلام التي هي في غاية
السهولة الراجعة لأداء حق الله وحق عباده . فهي في نفسها ميسرة ، قال تعالى
: ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )
البقرة/185، ومع ذلك إذا عرض للعبد عارض مرض أو سفر أو غيرهما ، رتب على
ذلك من التخفيفات ، وسقوط بعض الواجبات ، أو صفاتها وهيئتها ما هو معروف .
ثم إذا نظر العبد إلى الأعمال الموظفة على العباد في
اليوم والليلة المتنوعة من فرض ونفل ، وصلاة وصيام وصدقة وغيرها ، وأراد أن
يقتدي فيها بأكمل الخلق وإمامهم محمد صلّى الله عليه وسلم ، رأى ذلك غير
شاق عليه ، ولا مانع له عن مصالح دنياه ، بل يتمكن معه من أداء الحقوق كلها
: حقّ الله ، وحقّ النفس ، وحقّ الأهل والأصحاب ، وحقّ كلّ من له حقّ على
الإنسان برفق وسهولة .
وأما من شدد على نفسه فلم يكتف بما اكتفى به
النبي صلّى الله عليه وسلم ، ولا بما علَّمه للأمة وأرشدهم إليه ، بل غلا
وأوغل في العبادات : فإن الدين يغلبه ، وآخر أمره العجز والانقطاع ، ولهذا
قال : ( ولن يَشادَّ الدينَ أحد إلا غلبه )
فمن قاوم هذا الدين بشدة وغلو ولم يقتصد : غلبه الدين ، واستحسر ، ورجع القهقرى .
ولهذا أمر صلّى الله عليه وسلم بالقصد ، وحثّ عليه فقال : ( والقصد القصد تبلغوا )
ثم وصى صلّى الله عليه وسلم بالتسديد والمقاربة، وتقوية النفوس بالبشارة بالخير، وعدم اليأس.
فالتسديد: أن يقول الإنسان القول السديد ، ويعمل العمل
السديد ، ويسلك الطريق الرشيد ، وهو الإصابة في أقواله وأفعاله من كل وجه ،
فإن لم يدرك السداد من كل وجه فليتق الله ما استطاع ، وليقارب الغرض ، فمن
لم يدرك الصواب كله فليكتف بالمقاربة ، ومن عجز عن العمل كله فليعمل منه
ما يستطيعه .
ويؤخذ من هذا أصل نافع دلّ عليه أيضاً قوله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) التغابن/16, وقوله صلّى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ) والمسائل المبنية على هذا الأصل لا تنحصر .
وفي حديث آخر : ( يسِّروا ، ولا تعسروا ، وبَشِّروا ، ولا تنفروا ) .
ثم ختم الحديث بوصية خفيفة على النفوس ، وهي في غاية النفع فقال : ( واستعينوا بالغدوة والروحة ، وشيء من الدُّلجة )
وهذه الأوقات الثلاثة كما أنها السبب الوحيد لقطع
المسافات القريبة والبعيدة في الأسفار الحسِّية ، مع راحة المسافر ، وراحة
راحلته ، ووصوله براحة وسهولة ، فهي السبب الوحيد لقطع السفر الأخروي ،
وسلوك الصراط المستقيم ، والسير إلى الله سيراً جميلاً ، فمتى أخذ العامل
نفسه ، وشغلها بالخير والأعمال الصالحة المناسبة لوقته - أوّل نهاره وآخر
نهاره وشيئاً من ليله ، وخصوصاً آخر الليل - حصل له من الخير ومن الباقيات
الصالحات أكمل حظ وأوفر نصيب ، ونال السعادة والفوز والفلاح وتم له النجاح
في راحة وطمأنينة ، مع حصول مقاصده الدنيوية ، وأغراضه النفسية .
وهذا من أكبر الأدلة على رحمة الله بعباده بهذا الدين
الذي هو مادة السعادة الأبدية ؛ إذ نصبه لعباده ، وأوضحه على ألسنة رسله ،
وجعله ميسراً مسهلاً ، وأعان عليه من كل وجه ، ولطف بالعاملين ، وحفظهم من
القواطع والعوائق .
فعلمت بهذا : أنه يؤخذ من هذا الحديث العظيم عدة قواعد :
القاعدة الأولى : التيسير الشامل للشريعة على وجه العموم .
القاعدة الثانية : المشقة تجلب التيسير وقت حصولها .
القاعدة الثالثة : إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم.
القاعدة الرابعة : تنشيط أهل الأعمال ، وتبشيرهم بالخير والثواب المرتب على الأعمال .
القاعدة الخامسة : الوصية الجامعة في كيفية السير والسلوك إلى الله ، التي تغني عن كل شيء ولا يغني عنها شيء .
فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم ونوافعها " انتهى.
" بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار " (ص/77-80)
والله أعلم .
الدلوووووووووعات